قصةٌ قصيرةٌ بعنوان "طبيبٌ لا يعرف الحب" مأخوذةٌ من كتاب "ليلة ونهار وعمرٌ مليءٌ بالأسرار" للكاتبة الفلسطينية رنيم ذاكر ناصر.

 طبيبٌ لا يعرف الحب 


الساعةُ الآن السابعةَ والنصف صباحاً، دنت الشمس مني وأزالت سواد الليل عن قلبي الكئيب، ككلّ ليلةٍ مارستُ ساعاتٍ من النظر المتواصل إلى أرجاء غرفتي، الخزانة، الجدران، السقف، المرآة، والشباك الذي ينقلني للأفق، كنت حبيس ليلٍ ممتدٍّ وأفكارٍ صعيبةٍ لم يزر به النوم عيني، ظللتُ أراقب السقفَ دون حراك... 

تغورُ وتنجدُ الأحداث برأسي، بعد ليلةٍ من الاعترافات السحيقة، وخروجي منهزمًا من معركة الذاكرة، أمسكت قلمي وشرعتُ أوثق هزائمي …


أقبل مني والدمع يغزو عينيه، والتعاسة قد استوطنت فؤاده، رأيت مشاهد الحرب التي خاضها بين كلماته تشتعل وتلتحم أمام مرأى عيني، بدأ يشجن بمأساته على مسمعي، حتى أنهى كلماته بتنهيدةٍ شقت الحجر، وقال بصوتٍ هز الكيان : 

الآن عرفتُ الحكمةَ خلف أنّ عمر الانسانِ يتراوحُ ما بين السبعين والثمانين عاماً، فَلو عاشَ مائتي عامٍ لَجُنَّ من فرطِ الحنين لِأشياء لم تعد له. ولن تعود ذات حينٍ إليه. 

كنت على قيد الحياة حتى شاء الله ودُفِنتُ بين عينيها، 

حتى نفخ الفراق بالسور، فَفارقتْ روحها جسدي، وبِتُّ كَالميتِ الحيّ، روحي معها وجسدي يصارع هذا العالم البائس. 

حين بدأت ذي المأساة، وكُتِبَ عليَّ أن أهرب باكيًا من مواجعها ألف مرةٍ في اليوم إلى الله، وكنتُ أُقسم له باسمه الأعظم، الذي إذا دُعِيَ بهِ أجاب، تالله ما قلبي بمنفردٍ في الحبّ، وإنّكَ قد رقّقتَني يا ربّ  حتى باتَتْ كُلُّ جوارحي قلب، أحببتها بِكُلّ ما فِيَّ حتى نسيتُ من أكون، رأيتُ فيها حياتي ومماتي، خلاصي وانشِغالي، حرّيتي وأسري، ، حربي وسلمي، هلاكي ونجاتي، دائي وما قبل الألف واو، كَوني وانفرادي، ملجأي وملاذ فؤادي! 

صغيرتي... 

حيثُ ما كُنتِ فإنّي أُقرِئُكِ السلام، أودُّ اخباركِ بِأنّ الشوقَ قد بلغ منّي ما بلغ، وأنّ الأرضَ قد ضاقت بي ذرعًا، ولو تقلّصَت ولو اتّسَعَت، وأنّ الحياة على رحابها لا تستطيعُ احتوائي، فَالعيشُ بَعدكِ قبرٌ، والقبرُ الآن أجدى بي من الحياة، أرجوكِ عودي فَلَم أعُد كما كنتُ سابقًا، أصبحتُ أكثر اهتمامًا وأكثر  شغفًا، أعد ترتيب نفسي كي أصير لائقًا بكِ يا مدلّلتي، أخبريني بِالله عليكِ، لِمَ لا تنفكُّ أطيافكِ عن محاصرتي، فأراكِ تعبرينَ شوارع القلب وتطفئينَ مصابيحهُ مصباحٌ يتلوهُ مصباح، وتحيطينَ الشمس بِأشعةِ شعر الجرشع الذي تملكين، وتلوذينَ بسرعةٍ تاركةً خطوات الحسرةِ خلفكِ على ثرى الفؤاد، كُفّي عن زيارتي في موتي الأصغر، وأقْبِلي واقِعًا ولو لِمرةٍ واحدة، حقّقي مناماتي، يا عابثةً بالأُحجيات، حَقِّقيني. 

ولِأُخبِرك.. الحياةُ لم تَعُد حياةً من بعدك، ولم يَعُد بها ما يغريني للعيش أكثر، وإنّي أُريدُ الموتَ فاقتربي قليلاً … بِثباتٍ .. خوفًا على قلبي من أنْ يتلعثمَ بِرِقّتك، واقتُليني. 


يا سيدتي

هذا القلبُ قصيدةٌ ذات حنينٍ رميتُ الشّوقَ على أبياتها، وخَطَطْتُها بِنبضٍ مفجوعٍ وعليل… 

فَعافي عِلّتي ومُصابي، 

عافِني!

انتهيتُ من كلماتي، واندثرَ طيفي الحزين على حينِ غفلة، 

خيّمَ الصمتُ عليَّ، وشبّتِ النارُ في أضلُعي، فأنا حقًا أفتقدك. 

إلى أيّ عمقٍ قد انغمستِ فيَّ حتى باتَ اجتثاثُكِ صعبًا إلى هذا الحد، يا شجرةً خصبةً ذات مواتٍ، ما الذي فعلتِهِ حتى أصبتِني بسهامكِ في منتصفِ حُلمي فأصبحتُ ذاك المُتيَّمَ المجنون الذي يعالجهُ طبيبٌ يثقُ بالعقاقير والقوانين المحفوظة ولا يعترف بوجود الحب! 


افترقنا! 

والدنيا مازلت كما هي 

 لم تسقط السماءُ على الأرض 

لم تتكور الشمس  

ولم يفنى العالمُ بعد 

ولكن ما بالُ دُنياي قد قُلِبت رأسًا على عقب 

وكلّ شيءٍ فيها قد سيقَ نحوَ الفناء 

كُسِفت سمائي على أرضي 

وتكوّرت شمسُ الروحِ وتلاشت نحوَ الألم 

أما قلبي … فَآهٍ عليهِ …


"أَشكو إِلى اللَهِ قَلباً لا قَرارَ لَهُ

قامَت قِيامَتُهُ وَالناسُ أَحياءُ"




كلمات: رنيم ذاكر ناصر

تحرير النشر وتدقيق: دعاء العوايشة

من كتاب: ليلة ونهار وعمرٌ مليءٌ بالأسرار

فصل: يوميات طبيب نفسي

إعداد الكتاب: دعاء العوايشة وفاطمة سمير 

تعليقات

  1. صديقتنا المبدعة الف مبارك 💛

    ردحذف
  2. النص بقلبي مبدعة كعادتك🤍

    ردحذف
  3. "أَشكو إِلى اللَهِ قَلباً لا قَرارَ لَهُ

    قامَت قِيامَتُهُ وَالناسُ أَحياءُ"


    ماشاءالله أبدعتي🥰

    ردحذف
  4. مبارك عزيزتي رنيم ♥️♥️

    ردحذف
  5. ابدعتي رنيم💜

    ردحذف

إرسال تعليق