قصةٌ قصيرةٌ بعنوان "رماد" مأخوذة من كتاب "ليلة ونهار وعمرٌ مليءٌ بالأسرار" للكاتبة الأردنية المتألقة إسراء شاكر الصرايرة

 رماد


رنات الهاتف تتعالى، أجيب "لا أحد يقترب، لا أحد"، أصواتٌ غير مفهومةٍ، يا طبيب، أرتدي مسرعًا خارجًا بشكلٍ مرتبكٍ متسائلًا ترى ما هو سبب الانتحار؟ ما القصة؟


وصلتُ أخيرًا، يالهول المنظر الذي أراه، جثةٌ هامدةٌ فقدت أغلب ملامحها، من أين أبتَدئ بالكشف عنها؟ ويحَ هذا الدمار، وَما إن علمت أنَّها جثةٌ بسبب النيران إلّا وقد اقشعرّ جسدي وذممتُ مهنتي هذه؛ أن جعلتني أطَّلِعُ على أوجاع العالم، وقد اشتعل الرأس شيبًا من هول ما سمعت، فأيّ أذىً قد بدر منه حتى وصل لمرحلة أن يحرقَ نفسهُ دون أدنى تردُّد؟!


 لم أدرِ أذمّهُ أنِ اختار أن يموتَ بهكذا ذنب، أم أحزن على حالٍ قد وصل بهِ أنْ أصبح ضحيةً! لكنّه قد أبدل أن يموت بِذنبٍ وأن يموت ضحيّةً بِأن يصبح مجرمًا.

 جثةٌ قد التهمتها النار، أحاطت بها من كلّ الأركان، نهشت منها حتى قضت على أنفاسها، شبابٌ انهار بأكمله، ملامح وجهِ لا أكاد أراها، غيّرها الحريق حتى كدت أجزم أنّني لا أعلم هل هذا الجسد يعود لِإنسانٍ طبيعيٍّ كَسائر البشر، متفحّمٌ كقطعةِ خبزٍ تُرِكَت على النار طويلًا، ولا أعلم ما يدفع المرء أن يفعل هذا ضاربًا آلامه بعرض الحائط، فاقدًا إحساسه بِما من الممكن أن يؤول إليه حال هذه الدنيا الفانية، البادي للعيان أنّ هنالك جسدٌ قد احترق، والمخفي للرؤيا أنّهُ قلبٌ قد اشتعل، أيعقل هذا؟! خاتمٌ من الحديد لم يكن ليدلني غيره على وجهة اليد المتفحمة، انتزعهُ حتى أرى أنّه قد كتب عليه "ألّا تتعلق بي يا عزيزي كثيراً، فنيران حبي مشتعلةٌ هنا بِقلبك، سَتحرقك يومًا ما".


    حملتُ حقيبتي دون أن أكمل ظنًّا مني أنَّني سأجدُ شيئاً حول هذا الاسم باحثًا عن إجابة، وَما إن وصلتُ حتى علمتُ أنَّ هنالك رسالةٌ قد تُرِكَت، رسالة الوداع الأخيرة. 


   وصلتُ إلى صاحبة الرسالة وحادثتُها قليلًا، فتاةٌ قد وصل منها الغرور مبلغًا، وَاعتادت الخيانة وَالغدر، وَقد عيّرته بجملةٍ قالتها لهُ مختالةً بعد ما طلبَ منها الحديث أول مرة. 


_كان قد طلب مني الحديث، لم تكن أول مرة، لكنه من الشبان الذين كانوا يراقبونني لكن يخاف أن يقترب مني، أظنه قد كان يخاف أن يمسني منه أي سوء، قد كنت أشعر بذلك، حادثتهُ عدة مرات محادثات بسيطة لأنه بصراحة كنت أشعر بحبه الشديد لي، لكن لا أُنكر أنّه قد كان شديد الاحترام والخُلق، ولن أُخفي عليك أنا شديدة الجمال وليس باب الحديث مفتوحًا لِأيّ عابر، بدأتُ بِلعب لعبة الساحرة والمفتون، وطلبتُ منهُ في آخر مرة حاول بها محادثتي بعد أن بدأتُ بالصد المتكرر، كان ملوّع القلب ذلك اليوم حقًا، طلبتُ أنْ يحرق نفسه لأجلي، أن يوقد جسدهُ بالنار كي أطمئن، كنتُ أُمازحهُ واللَه، حتّى أنّه قد ذهب دون أن يجيبني، قال فقط كلمتان "طيب يا سناء، بِأمرك"، ظننته يمازح كما كنتُ أنا أُمازح، لذلك ضحكت عندما قال طيب يا سناء بِأمرك، كنتُ راغبةً في أن أرى ردّة فعله لا أكثر، ورغم صدودي كانت تلك دعابةٌ خفيفة، لكنّه قد حدّق بِعيناي تحديقةً رهيبةً مليئةً بالعشق واليأس، متأكدةٌ أنه قد كان عاشقًا لي بكل صدقٍ وأمانة، تلك النظرة لا أنساها. 

_وهل أهديتِهِ خاتمًا يا سناء؟! 

_أهداني هو خاتم، لكنّني قد أعدتُهُ له. 

_أعدتيهِ كما هو أم أحدثتِ بهِ بعض التغييرات؟ 

_بصراحة قد كتبتُ عليهِ عبارةً ما. 

_أكانت "ألّا تتعلق بي يا عزيزي كثيراً، فنيران حبي مشتعلةٌ هنا بِقلبك، سَتحرقك يومًا ما"؟! 

_من أين عرفت كل هذه التفاصيل، يااااه من أنت، ماذا هنالك، ماذا يحدث أفهِمني. 

_أزهقتهِ حيًا، وميّتًا، طلبتِ يا سناء وهو قد فعل. لِذلك فقد كان كما قلتِ، أحبّكِ، عشقكِ بجنونٍ تامٍ وبصدقٍ وأمانة، لقد عرفتُ منهُ أنَّ من الحبّ ما قتل ليست جملةً وتُقال، إنما حقًا، من الحبّ ما قتل. 

_لم أفهم، ماذا تقول؟ ماذا تقصد من كلامك هذا؟! اسمع يا هذا، إما أن تتكلم أو يمكنك الذهاب لا أُريد سماع أي شيء أكثر من ذلك. 


رفعتُ الكاميرة وبدأتُ بتقليب الصور أمامها، وأريتُها ذلك الخاتم والعبارة المكتوبة عليه كيف زال واحترق كل شيء إلّا الخاتم والعبارة، بدأت تصرخ وتلطم خديها وتنوح، وأن هذا لم يكن ذنبًا مُفتَعَلًا، وأنّها قد قرأت العشق بعينيه لكن كانت دعابة. وبخت سناء، ولم يكن هنالك جرمٌ واضح، أو لم أشأ أن أحبسها ولو كنتُ أستطيع، والسبب هو أنّها قد ماتت نفسيًّا وروحيًّا، عاشت بتخبُّطٍ دائم، عاشت بعد ذلك مع أطيافه، تراه أينما حلّت، وتحادثه كأنما تحادث الأحياء. ليست مجنونةً، إنما مرضت نفسيًّا وروحيًّا، ولم يستطع أي طبٍّ أن يجد لها أي علاج أو حل سوى أن ينحذف ما اقتوفت يداها، أن يعود هو للحياة، أن تحدث معجزةٌ ما، وهذا ما يسمى بالمستحيل. 


في ذلك اليوم قد أخذت هي الخاتم مني وارتدتهُ بسلسلةٍ في عنقها، كان من الفضة الخالصة، "ألّا تتعلق بي يا عزيزي كثيراً، فنيران حبي مشتعلةٌ هنا بِقلبك، سَتحرقك يومًا ما" تعلقت هي بروحه، تعلقت كثيرًا وجدًا، وأحرقتها نيران حبه، واشتعلت بروحها لا بقلبها، وإلى الأبد، أحرقتها وما عاشت من بعد عبارتها للعاشق الصادق تلك. 



ما حدث ذلك اليوم اخترق نطاق التصديق، جاوز المحال، قصتهما كالجنون كالخيال، كيف أحبها حتى مات رهن عدة كلمات منها، وكيف انصهرت من بعده حتى ذابت الروح وماتت روحًا وقلبًا وباتت تنتظر الموت حتى تلتقي به نعيمًا سويّةً، أو جحيمًا! 


أما كيف أنهيتُ أحداث ذلك اليوم بالتحديد، فقد ذهبتُ وَلم أكن أعلم إن كانت مجرد دعابةٍ تعجيزيّةٍ بحقّ، أو محاولة قتل، أو أنثى مغرورةٌ بِجمالها الزائد عن المألوف، لكنّها قد كانت نهايته، خرجتُ وَبقي هناك ملقىً على سرير الطبّ الشرعيّ، كتبتُ قصّتهما بدفترة مذكراتي، وبقيت أزور سناء بين الفينة والأُخرى، وعاثت بروحي تلك الحكاية، ومتعمدًا رأفةً بحالة سناء، كتبتُ تقرير وفاته على أنه حالة انتحارٍ بسبب ظروف الحياة القاسية، لكن بالحقيقة فَمهما كتبتُ، لا أعلم إن كان هنالكك ما يُكتَبُ حقًا، فقد بات كلٌّ شيءٍ مع ذكراهما رمادٌ بِرمادٍ بِرماد. 





كلمات: إسراء شاكر الصرايرة  

تحرير النشر وتدقيق: دعاء العوايشة

كتاب: ليلة ونهار وعمرٌ مليءٌ بالأسرار

فصل: رسائلٌ فوق الجثث

إعداد الكتاب: دعاء العوايشة وفاطمة سمير 

تعليقات

  1. يدوم هالابداع لا تحرمينا 🤍🤍🤍

    ردحذف
  2. الف مبارك زميلتي بالمزيد من التقدم والنجاح ❤️❤️

    ردحذف

إرسال تعليق