قصة قصيرة بعنوان : قهوة الوداع .
في ليلة ليلاء دامس جلبابها ، قد اغدف إهابها وغاب قمرها دخل مراد إلى بيته المتواضع أو بالأحرى إلى قبوه المهترىء الذي يقع في نهاية الشارع ..
لم يبق لهذا الفتى بعد وفاة أبيه سوى أمه المسنة وأخته الشابة اللتين كانتا في أمس الحاجة لعضد مثله..
وقف الحظ به على مهنة النجارة التي برع فيها وأنس بها ، ولم يكن قادرا بعمل كهذا أن يقضي حاجات أمه العليلة ولا أخته الشابة المتأملة ولا أن يسد خلتهما لكنه كان شابا هماما مرسته الخطوب وسبغت عليه التجارب القاسية ثوب الوقار ..
دلف كعادته إلى منزله بعد انقضاء يوم شاق ، حيّا أخته وسلم على والدته ثم اتخذ مجلسًا بجوارها وقال :
_ عساك اليوم أحسن حالاً يا أمّاه .
فتجيبه جوابها المعتاد :
_ نحمد الله على كل حال يا ولدي .
ثم تُربِّت على كتفه بحنو وتقول :
_ ماذا عنك يابني ؟ ارحم نفسك ولا تكلفها ما لاطاقة لها به فإنك تجهدها كثيرا ..
فيجيبها ابنها:
_ الحمد لله دائما يا أمي.. إني رجل هذه الأسرة ومن لك ولأختي غيري فإن لم أعمل أنا فمن أين لنا الرغد !
فتتمتم أمه بدعواتها النابعة من نياط مجهتها وتلفظ بعبارات الثناء والتقدير لأسدها الذي تفخر به ..
أخرج مراد ورقة من جيبه وسلمها لأمه التي لبثت تتحسسها بأناملها وتتفحصها بنظراتها ثم قالت :
_ ماهذا يا بني ، إنك تعلم أني لا أجيد القراءة ولا أفقه في الكتابة شيئا لأني ابنة استعمار غاشم وأسرة مجدت الزواج على العلم والمعرفة ..
هنا ابتلع مراد غصة سدت حلقه وقال :
_استلمت اليوم ورقة استدعاء لتلبية الخدمة الوطنية .
حدقت أمه فيه بذعر وقالت :
_ وماقولك ؟
فأجابها كأنه يواسيها وهو يعلم أنها لن تتقبل فكرة فراقه ولن يهون عليها وداعه :
_ إن الخدمة الوطنية واجب ، وآلاف الشباب يمرون بالظرف نفسه في كل عام .. فإني يا أماه جئتك مودعًا لأرحل غدا .
نظرت إليه أمه بعينين دامعتين يملؤهما الرجاء وقالت بصوت مختنق :
_ ومن لي غيرُك يا مراد ، إني أخشى أن توافيني المنية ولا أراك ثم إننا في زمن العشرية السوداء وإني أخاف عليك في زمن كهذا قد قل فيه الشعور بالأمان.
هنا تدخلت ابنتها قائلة:
_ الله معنا يا أمي لا تقلقي .. قوي إيمانك بربك .
احتضن مراد أمه التي بكته وماهان عليها فراقه ثم ألقى بوابل من النصائح لشقيقته التي سيزداد شقاؤها..
كانت ليلة عصيبة على تلك الأسرة ، فلا عرفت الأم طعم الكرى إلا بعد وقت من السهاد ، ولا الابن طاب مضجعه فقد غاص في سبات متقطع تخللته كوابيس مخيفة ، أما أخته فقد كانت قاصر لا هم لها غير دراستها فلم تطرح لفراق أخيها بالا واسعا ظنا منها أن المياه ستركد في مجاريها .
بعدما أرخى النهار عباءته على سماء المدينة وتخللت أشعة الشمس البيوت ، كانت الأم في المطبخ تعد قهوة الوداع لابنها .. دلف عمر إلى المطبخ وارتشف آخر فنجان قهوة مع أمه كانت آخر عهده من الدفىء والحنان ، وكبح بعسر عبراته اليتيمة وهو يعانق أمه وأخته لآخر مرة ..
اما اخته فقد تضاعفت مسؤوليتها ، وصار عليها أن تؤدي دوره وتكسب قوتها بنفسها ، لتعين أمها ، وكم عانت المسكينة من يتم ووحدة ، وكان الفقر المدقع الذي تعيش فيه يفرض نفسه في كل مرة ، وتغيرت حياتها من السيئة إلى الأسوء ، صار عليها أن تقف بشخصية امرأة ، وهيبة رجل في مجتمع قاسٍ ، لا يعطي للمرأة النظرة التي تستحق ..
لم تستطع الدراسة وهي في تلك الحال ، ففضلت المكوث مع أمها والعناية بها ، بعد كل الذي واجهته من صعاب في كسب القوت .
فحاكت حتى عشى بصرها وعملت في بيوت النساء حتى لقيت من الإهانة والذل مااكتفت به ، فيبست أطرافها ، وشحب وجهها ، وضعف جسدها ، وصارت تغطي شعرها الذهبي بقماشة مهترئة تحجب رونقه ، وكثيرون من رقوا لحال الفتاة المسكينة التي تجتهد في طلب لقمة العيش ، وهمها الوحيد هو ان تحيا هي وأمها بسلام .
،كانت تعمل كل يوم وتعود مساءً لمنزلها فتعكف على تنظيفه ورعاية أمها التي لاتفارق دعواتها لابنتها شفتيها ، ثم تصلي مافاتها من ركعات ، ولا تنام كثيرا حتى تجدها قد خرجت من منزلها نحو أي مكان تجد فيه عملا شريفا.
وكم كانت تعاني حتى تحفظ شرفها وتصون عرضها من الأنذال الذين يتدنون إليها ..
كانت قد مرّت أشهر على رحيل مراد الذي كان يعمل يوميا ويعد الأيام بشوق ليعود لأسرته ، كان في الثكنة العسكرية عندما تسلم رسالة من أخته ،فتحها بشغف ليقرأ ما بداخلها :
أخي مراد .. لم تكتب إلينا ولم تزرنا كما وعدتنا .. إن حالي حال ضمآن يرى الشلالات أمامه ولا يستطيع شرب قطرة منها وحسبي من هذه الحياة الطمأنينة فلا حاجة لي بالفرح مادمت غير هانئة البال .. إن أمي تتعذب كثيرا ، فقد نزلت بها نازلة من المرض هوت بها فراشا ، وبلغت بها العلة منتهاها ، وأملها في الحياة ضعيف ، وكلما أدركتها في خلوتها وجدتها تبكيك بكاء يعقوبٍ ليوسف فأما يعقوب قد عمت بصيرته وأما هي فقد عمى قلبها الذي ينفطر كل يوم أسفًا عليك ، فمذ فارقتها لا طاب لها نوم ولا استلذت طعاما ولا مشربا .. وحسبها منك أن تراك علًها ترتاح ، إني أخط لك هذه الكلمات آويةً لحالها راثية لحالي وإني أتوسل إليك بكل جوارحي أن تدركها لأني أرى أنها في أيامها الأخيرة والموت يدنو منها رويدًا رويدًا فاسبقه إليها أرجوك .
انتهى مراد من قراءة الرسالة ورفع يده المرتجفة ليجفف سيل العبرات على خديه ، وشعر بالرجفة تسري أعضاء جسده وكأن صخرًا عاتيا وضع على صدره ومنع عنه التنفس ..
هل هذا مايسمى بالمكتوب ؟ أي رحلة تلك قد قاده إليها ؟؟ .. لماذا كل هذا الألم والعذاب ؟ هل نحن مجرمون في حق أنفسنا أم الواقع هو المجرم ويستحق أن ينال عقابا ؟
كان يعلم أنه لن يحصل على إجازة عسكرية وإن خالف القانون فسيعاقب ، لكنه في هذه الحال لم يعد يخشى أي عقوبة فخير ماعاقبه به القدر أن وضعه في موقف كهذا ،هو مخير بين رؤية أمه في مثواها الأخير أو العمل من أجل مستقبله .. إلى متى ستستمر هذه المهزلة ، إلى متى سنبقى نقدم أرواحنا وأبناءنا ، ونضحي بتلابيب شبابنا ، لقد حان وقت التمرد .. كان سياط الأسئلة يجلده من كل جانب فرمى به عرض الحائط وحسم قراره برؤية أمه..
في تلك الأثناء كانت جماعة من الإرهاب المسلح قد هبطت وقامت بهجوم عنيف على الثكنة العسكرية التي يقيم بها مراد ، كان الذعر يدب في كل مكان ، ودوي الرصاص يصم الآذان ، وهنا سقط مراد شهيدًا في الميدان .
في اللحظة التي فاضت فيها روح مراد إلى ربه ، كانت أخته قد دخلت إلى بيتها في تلك الأمسية الباردة قاصدة أمها لتطمئن عليها ، جلست بجانب أمها الممدة على سريرها ونادتها كثيرا ، لكنها لم تجد جوابا عن نداءها فقد سبقها الموت إليها وصارت جثة هامدة .
نشوى خوديري _ مستغانم- 14 سنة.
ماشاء الله...مزيدا من الابداع و النجاح نشوتي 💙💙
ردحذفواصلي صغيرتي ولا تتوقفي هناڪ الكثير ينتظرك مستقبلا ❤💙
ردحذفرائع ماخط قلمك جعلتيني أتخيل القصة وكانها حقيقة امامي شكرا صغيرتي
ردحذفبرافو يعطيك الصحة قصة من الواقع المر بالتوفيق بنيتي
ردحذف